مقدمة
أعلت من شأن النص القرآني وردّت الأحاديث التي تتعارض مع الآيات واستدركت على الصحابة فيما يروونه عن النبي الكريم
«التيسير» منهجها في كل ما له علاقة بتعاليم ومبادئ الإسلام
كانت تأخذ بالرأي والاجتهاد فيما لم يرد فيه نص
حتى الآن.. ونتيجة للجدل الطائفي الذي حاصر فكرها، لم تتم دراسة منهج السيدة عائشة رضي الله عنها كصاحبة مدرسة فقهية متكاملة الأركان.
مدرسة نهل من معينها السلس أئمة الاسلام وفقهائه وأصحاب المذاهب الفقهية الأربعة والعلماء والدعاة منذ سطوع نور الاسلام وحتى الآن. ولوكان البعض من الدارسين والباحثين قد اهتم بفقه أم المؤمنين لذكرت عبر العصور كصاحبة مدرسية فقهية ومذهب سبق أصحاب المذاهب المعروفة والشهيرة ولربما كان قد سمي باسمها.
فالصديقة بنت الصديق كانت تعلي من شأن النص القرآني على ما سواه، وترد الحديث اذا ما تعارض مع آية قرآنية قطعية الدلالة والثبوت، وتستدرك على رواة الأحاديث فيما يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فترد الأحاديث التي نسبت الى النبي وهو لم يقلها، أو توضح ما خفي من أسرار معاني الحديث، أو تستنكر اخراج الحديث النبوي من سياقه الذي قيل فيه.
والأهم أنها كانت تأخذ بالرأي والاجتهاد فيما لا نص فيه، وتعتبر «التيسير» هو الأساس في كل ما له علاقة بتعاليم الاسلام.
لقد قدمت أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق.. الفقيهة.. المحدثة الشاعرة.. الطبيبة..حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفضل نموذج لما ينبغي ان تكون عليه المرأة المسلمة من استقلال الشخصية والنضج العقلي والوجداني والقدرة على تحصيل العلم وتبليغه للناس.
ونحن لا نملك الا ان نتقرب الى الله بحبها، حباً في رسولنا الكريم، لأنها أمنا الشابة التي أمرنا الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم ألا نتطاول عليها ولو بكلمة صغيرة «يعظكم الله ان تعودوا لمثله أبداً ان كنتم مؤمنين»، وحبا فيها لأنها الأم الحنون التي عاشت حياتها في كنف الاسلام وفي خدمة زوجها النبي الكريم الذي أرسله الله سبحانه وتعالى رحمة للعالمين.
كانت السيدة عائشة – رضي الله عنها – امرأة ذات علم ورأي وفقه، فكان الصحابة يصفونها قائلين: كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأياً في العامة.
ولو جمع علم الناس، ثم علم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لكانت عائشة أوسعهم علماً.
يقول عروة: ما رأيت أحداً أعلم بالحلال والحرام، والعلم والشعر والطب من عائشة.
وقال الأحنف: سمعت خطبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي الخلفاء هلم جرا، فما سمعت الكلام من فم مخلوق أفخم ولا أحسن منه من فم عائشة رضي الله عنها.
وقد سأل عمرو بن العاص: أي الناس أحب اليك يا رسول الله؟ قال: عائشة.قال: فمن الرجال؟ قال أبوها.

تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم السيدة عائشة ودخل بها وعمرها حوالي 14 سنة أو قاربتها – على أرجح الأقوال – وقد تولت السماء مهمة التمهيد لزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عائشة، اذ تدل بعض الروايات على ان الوحي جاءه مناماً ليخبره بخبرها، ويهيئ قلبه ومشاعره للزواج منها بعد وفاة زوجته خديجة.
وعاشت السيدة عائشة في كنف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يفقدها احساسها بصباها، وانما عاشت الفترة الأولى من حياتها الزوجية تلعب وتمرح كبقية الصبايا مثل من هن في سنها.تقول: كنت ألعب بالبنات – أي العرائس – عند رسول الله وكانت تأتيني صواحبي، وكن ينقمعن – أي يستترن – من رسول الله وكان يسر بهن اليّ فيلعبن معي.
ولم تطل مدة لعب عائشة في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم فسرعان ما أحست بمكانتها بعد ان صارت أماً للمؤمنين، وعرفت ان لهذه الأمومة ضريبتها، فاقتربت من رسول الله تسمع منه، وتحفظ عنه، تعي وتستفسر عما غمض، وتشرح للنساء ما يستحيي رسول الله صلى الله عليه وسلم من توضيحه وبيانه، حتى صارت أكثر أمهات المؤمنين رواية للحديث حيث روي عنها (2210) أحاديث، وهو ما يجعلها تأتي بعد أبي هريرة وعبدالله بن عمر.
وعاشت السيدة عائشة في كنف زوجها الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم تسع سنوات وبضعة أشهر شهدت خلالها مولد الأمة، واقامة الدولة، وتنزل الوحي، وكمال الدين، وتمام النعمة.وشهدت أحداث الغزوات والسرايا، وما اقتضاه ذلك من جهاد مرير، وعزم ماض حتى النصر.وأخذت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم معاني الوحي المنزل حتى آخر آية، بل لقد عاشت مع رسول الله حتى آخر نفس من أنفاسه لفظه بين سحرها ونحرها.
لقد كانت رضي الله عنها متميزة بعطر الحب الذي يغمرها في بيته صلى الله عليه وسلم، حتى أنها ما كانت تحدث عنه الا بذلك التعبير الشفاف (حبي رسول الله قال كذا) وحتى لقد قال فيها أنس بن مالك بحق: أول حب كان في الاسلام حب النبي لعائشة رضي الله عنها.
وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعوهم يعرفون مقدار الحب الذي يكنه (صلوات الله وسلامه عليه) لزوجه عائشة، فيقول مسروق اذا حدث عنها (أي نقل حديثها) حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله، المبرأة (ثم يذكر الحديث)
وسمع عمار بن ياسر رجلاً يقع في عائشة ويسبها فقال له: اسكت مقبوحاً منبوحاً، أتقع في حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ! انها لزوجته في الجنة.
وروي عن أنس بن مالك قال: من سب أبا بكر جلد ومن سب عائشة قتل.
قيل له: لم؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن لقول الله تعالى – بعد تبرئتها في حادثة الافك – «يعظكم الله ان تعودوا لمثله أبداً ان كنتم مؤمنين» فمن عاد لمثله – أي سب عائشة أو تحدث عنها بما لا يليق بمكانتها – فقد كفر.
وعاشت السيدة عائشة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعاً وأربعين سنة، كلها تعليم وتثقيف وتفقيه للمسلمين والمسلمات في أمور دينهم كما علمها رسول الله.
وكانت عائشة تفتي في عهد عمر وعثمان الى ان ماتت يرحمها الله وقد ناهزت السبعين من عمرها أو زهاءها، وكان الأكابر من أصحاب رسول الله يرسلون اليها فيسألونها عن السنن والفرائض.وقد روى عنها كثير من الصحابة مثل عمر بن الخطاب وابنه عبدالله، وأبي هريرة وأبي موسى الأشعري وغيرهم.
ومن أهل بيتها عبدالله بن الزبير وأخوه عروة وأم كلثوم أختها، وابنتها عائشة بنت طلحة.ومن مواليها: أبو عمر، وذكوان، وأبو يونس، وابن فروخ.
وكذلك روى عن أم المؤمنين عائشة كبار التابعين مثل: سعيد بن المسيب، وعمرو بن ميمون ومسروق وآخرون.
ونحن سنقدم اجتهادات السيدة عائشة وفتاواها ونستعرض من خلالها منهجها في الفتوى وفي الفقه، ونتعرف على «استدراكاتها» التي رصدها الزركشي والسيوطي، وكتب الأحاديث الستة وتشير الى امرأة عالمة وفقيهة ومحدثة، تمتلك شخصية حرة تستحق ان توصف بـ مفتية الاسلام الأولى.

كانت السيدة عائشة- وقبل نشوء علم مصطلح الحديث بنحو 200عام- لا تقبل الحديث الا اذا استوثقت من صحته.يروي عروة بن الزبير قال: قالت لي عائشة: يا ابن أختي بلغني ان عبدالله بن عمرو بن العاص مارٌ بنا على الحج، فالقه فاسأله، فانه قد حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علماً كثيراً.
قال: فلقيته فسألته عن أشياء يذكرها عن رسول الله، فكان فيما ذكر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (ان الله لا ينتزع العلم انتزاعاً من الناس، ولكن يقبض العلماء، فيرفع العلم معهم، ويبقى في الناس رؤوساً وجهالا يفتونهم بغير علم، فيضلون ويضلون).
فلما حدثت عائشة بذلك أعظمت ذلك وأنكرته فقالت: أحدثك أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟! قال عروة: حتى كان العام التالي قالت لي: ان ابن عمرو قد قدم فالقه وفاتحه حتى تسأله عن الحديث الذي ذكره لك في العلم.قال: فلقيته فسألته، فذكره على نحو ما حدثني به في مرته الأولى.فلما أخبرتها بذلك قالت: ما أحسبه الا قد صدق، أراه لم يزد فيه شيئاً ولم ينقص.
ودخل على السيدة عائشة نسوة من أهل البصرة فأمرتهن ان يستنجين بالماء – قلة الماء كانت تجعل الحجارة وسيلة استنجاء مباحة – وقالت: مرن أزواجكن بذلك فان النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله، وهو شفاء من الباسور.وفي رواية: مرن أزواجكن ان يغسلوا عنهم أثر الخلاء والبول، فانا نستحيي ان ننهاهم عن ذلك، وان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله.وأضافت: كان رسول الله يغسل مقعدته ثلاثاَ.
وتكمل السيدة عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ان الاسلام نظيف، فتنظفوا فانه لا يدخل الجنة الا نظيف)
وسألتها امرأة عن الحناء، فقالت: شجرة طيبة وماء طهور.وسألتها عن الحفاف، فقالت: ان كان لك زوج فاستطعت ان تنزعي مقلتيك فتصنعينهما أحسن مما هما فافعلي.
وسئلت عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن الله الواصلة والمستوصلة» فأفتت (ليست الواصلة بالتي تعنون، ولا بأس ان تعرى رأس المرأة من الشعر، فتصل قرنا من قرونها بصوف أسود، وانما الواصلة التي تكون بغيا في شبيبتها، فاذا أسنت وصلتها بالقيادة)
يقول ابن الأثير: لما ذكر ذلك للامام أحمد بن حنبل قال: ما سمعت بأعجب من ذلك.
وسئلت عن الهرة – القطة – تشرب من الاناء فأفتت: كان رسول الله تمر به الهرة فيصفى لها الاناء فتشرب، ثم يتوضأ بفضلها.
وسئلت عمن يترك ماء الوضوء يسيل منه بدعوى أنه نور فأجابت: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خِرقة ينشف بها بعد الوضوء.
وسئلت عن القُبلة هل تنقض الوضوء؟ فأجابت: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبّل امرأة من نسائه ثم خرج الى الصلاة ولم يتوضأ.
قال عروة بن الزبير ابن اختها: فقلت لها: ومن هي الا أنت؟ فضحكت.
وقالت السيدة عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا أراد ان ينام توضأ وضوءه للصلاة.
وسئلت عن كيفية الغسل من الجنابة فاجابت بأن يبدأ بيديه فيغسلهما، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يخلل أصول رأسه، حتى اذا خيل اليه أنه استبرأ، اغترف ثلاث غرفات فصبهن على رأسه ثم أفاض على سائر جسده.
واضافت: كنت أغتسل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في اناء واحد نغترف منه جميعاً.